يأتي شهر أغسطس (آب) من كل سنة ليُعيد الإشارة إلى الفارق الأهم بين الإنسان والحيوان، ولكنه يُشير إليه هذه السنة أكثر من أي سنة انقضت على مدى ثمانية عقود.
أما السبب فهو أنه في مثل هذا الشهر من عام 1945، بل في مثل هذه الأيام بالضبط، كانت اليابان مسرحاً لأول استخدام للقنبلة الذرية في الحروب، فاحترقت مدينة هيروشيما في اليوم السادس من الشهر بقنبلة، وما كادت أيام أقل من أصابع اليد الواحدة تمر، حتى كانت مدينة ناغازاكي قد لحقت بهيروشيما عندما استهدفتها القنبلة الثانية في اليوم التاسع.
وفي 2024 كانت هذه الذكرى الدامية قد أطلّت على الناس، وكانت جائزة نوبل للسلام هي التي أحيتها، عندما ذهبت إلى جمعية الناجين من حريق القنبلة. وقد أذاعت «وكالة الصحافة الفرنسية» تقريراً وافياً عن الذكرى، وعن الحريق النووي الذي أكل المدينتين في مثل هذا الشهر من تلك السنة، فلم يقف أحد، ولا شيء، في طريقه، وهو يأكل كل ما هو حي وغير حي فيهما.
والذين ذهبوا إلى هناك لاحقاً، وقد كنت واحداً منهم، رأوا بأعينهم أن القنبلتين اللتين ألقاهما الأميركيون على المدينتين بأمر من الرئيس الأميركي هاري ترومان، لم يتوقف حريقهما عند البشر، ولكنه تجاوزهم إلى الشجر والحجر!
رأيت هناك الأشجار وقد جفّت فروعها في مكانها، ورأيت أحجاراً احتفظ بها اليابانيون في متاحف خاصة بحريق المدينتين النووي، ولم تكن أحجاراً من النوع العادي الذي نعرفه، ولكنها أحجار اختلط فيها الصخر بالدم، فتشكلت كُتل حجرية بشرية معاً، وتجمدت دماء ضحايا القنبلة على كل حجر. وقد احتفظ اليابانيون ببقايا البشر مع بقايا الحجر، لعل العالم يتعلَّم من تجاربه، فلا يعود إلى الفعل نفسه للمرة الثانية، ثم يتوقع أن يحصل على نتيجة مغايرة.
ورغم ذلك، فإنه لا يكف عن العودة إلى ما سبق أن جرّبه ورأى حصيلته، ولا يتوقف عن السير في الطريق النووي المعروفة نهايته. فإذا جاءت العودة في الشهر نفسه الذي احترقت فيه المدينتان، وسقط في الأولى 140 ألفاً وفي الأخرى 74 ألفاً، فإن المعنى أن الإنسان وهو يعود أو يعاود الذهاب في الطريق ذاته، إنما يمحو الفارق الأهم بين الإنسان والحيوان.
فكلاهما كائن حي، وكلاهما يحس ويشعر، وكلاهما لديه رأس يحتوي على ذاكرة، ولكن هناك فوارق طبعاً، وربما كان هذا هو ما جعل أرسطو يصف الإنسان بأنه حيوان ناطق، لأن الحيوان لا ينطق ولا يتكلم. غير أن الفارق الأهم هو أن الإنسان كائن له تاريخ، أما الحيوان فلا تاريخ له في مسيرته على الأرض منذ الحيوان الأول على ظهرها إلى الحيوان الأخير.
وحين أراد الأستاذ أحمد بهاء الدين تعريف هذا الفارق في كتابه «أيام لها تاريخ» قال إن الطريقة التي جرى بها اصطياد أول فأر في التاريخ، لا تزال هي نفسها التي يتم بها اصطياد كل الفئران، وسوف تظل هي نفسها إلى آخر التاريخ.
جاء شهر أغسطس هذه السنة، فإذا بنا أمام الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، وهو يطلق تهديدات نووية في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية ومعها العالم، فيقول إن على الأميركيين ألا ينسوا أن لدى الروس قدرات نووية موروثة عن الاتحاد السوفياتي السابق.
وكان معنى التهديد الروسي أن موسكو لا تجد شيئاً يمنعها من تكرار حريق المدينتين اليابانيتين مرةً ثانية، ولكن في اتجاه مُدن أخرى، وبغير أن نعرف أي مدينة بالضبط يمكن أن يطولها الحريق النووي هذه المرة.
ولم يُكذّب الرئيس الأميركي دونالد ترمب خبراً في المقابل، فأعلن أنه أعطى أوامره بنشر غواصتين نوويتين أميركيتين في مناطق مناسبة بالنسبة للروس، وبغير أيضاً أن نعرف ما المكان المناسب بالنسبة إلى روسيا في حالة مثل هذه، وما المكان غير المناسب؟ وازدادت الأجواء سخونة نووية حين قال ترمب إن العالم مقبل كما يبدو على صيف نووي، وأنه بصفته رئيساً لبلاد العم سام مكلف بحماية مواطنيه في أميركا!
سوف يحمي مواطنيه من حريق الصيف النووي الذي ينفخ فيه، ولكننا لا نعرف شيئاً عمَّن سيحمي بقية الناس في أنحاء الكوكب من حريق الصيف الذي يُبشّر به ترمب أو ينذر.
المفارقة أن هذا كله يتم بالتزامن مع الذكرى الثمانين لحريق 1945، ويتم فيما شهادات الناجين من الحريق منشورة تقول إن ما وقع يجب ألا يتكرر، وإن تكراره يعني محو الفارق الأهم بين الإنسان والحيوان، وإن التهديد الأميركي في مواجهة التهديد الروسي يُبدد رصيد السنوات الثمانين في مسيرة العالم، فلا يكون هناك فارق بين إنسان وحيوان.