أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود

أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود

أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود

 العرب اليوم -

أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود

بقلم : فاروق جويدة

احترت دائمًا فى شاعرنا المبدع أحمد رامي، وكنت أتساءل ومازلت: من الذى صنع عبقرية هذا الرجل؟ هل هو الشعر؟ الموهبة؟ أم هو الحظ؟ أم هو العشق الذى جعل امرأة تسيطر على قلبه نصف قرن من الزمان؟ لم يكن رامى مجرد شاعرٍ أجاد القصيدة، ولكنه كان عالَمًا من الإحساس والإبداع والعشق.. هذه الثلاثية التى اجتمعت فى أحمد رامى لم تكن شيئًا عاديًا.. إذا كانت الموهبة قدرًا، فإن أم كلثوم كانت صدفة، وكان الغناء حظًا جميلًا..

ــــــ أحتار دائمًا فى أحمد رامي، الشاب العائد من باريس بعد أن درس اللغة الفارسية، لكى يلتقى مع معجزة فى مقتبل العمر، ويعيد تشكيلها، وينتقل بها من أعماق القرية إلى آفاق المدنية، وليصنعها على عينه سلوكًا وتحضرًا وحديثًا وثقافة.. هل هو القدر؟ أم هو الحظ ؟ أم هو الحب ؟ حيث لا راد لقضائه، اكتملت الأسطورة، والتحق بهذا الثنائى القادم من باريس وقرية طماى الزهايرة ليكون رياض السنباطى إحدى هذه المعجزات التاريخية فى تاريخ الفن المصري.

تأخر اللقاء بين الثلاثى العبقرى قليلًا، فقد انفرد رامى بابنة قرية طماى الزهايرة وبدأ فى إعادة تشكيلها كلامًا وسلوكًا وحضورًا وغناءً. كان أحمد رامى فى هذه الفترة قد بدأ مشروعه كشاعر، رغم أن الساحة كانت تضم النجوم الكبار فى ساحة الشعر، ويكفى شوقى وحافظ، ولكن رامى اختار أن يكون عزفًا منفردًا، وإن كانت العواصف عاتية. لا أدرى كيف راهن رامى على صوت أم كلثوم، وكانت مغامرة جريئة، فهو شاعر يتقن الفصحى، وله قصائد فى غاية العذوبة، فكيف يضحى بذلك أمام صوت جديد، لكى ينتقل من رصانة الفصحى إلى بساطة العامية، ويترك المحيط لكى يسبح فى بحيرة صغيرة من أجل فتاة يمكن أن تكون واعدة؟

ــــــــ فى تقديرى، إن هذه المغامرة كانت أخطر قرار اتخذه رامى فى حياته من أجل أم كلثوم.

لا أتوقف كثيرًا عند سؤال يؤرق الكثيرين: هل أحب رامى أم كلثوم؟ وأنا لا أتصور قصة حب بين شاب فى العشرينيات، عائد من بعثة دراسية فى باريس، ويحب فتاة ريفية صغيرة، ولكن ربما أحب رامى صوت أم كلثوم، وراهن على صوتها لكى يحمل كلماته للناس، وما كان ليخلع عباءة الفصحى ويرتدى جلباب العامية، إلا إذا كان لديه إحساس بأنه يصنع معجزة فى الأغنية مع صوت أم كلثوم..

ــــــــ مع رياض السنباطى اكتملت المنظومة: رامى المبدع، والسنباطى المعجز، وأم كلثوم الصوت القادم من السماء. حملت أم كلثوم كلمات رامى التى قدمت لغة جديدة، حملت أناقة الفصحى وشياكة العامية، واستطاعت أم كلثوم مع ألحان السنباطى أن تصنع أغنية جديدة ترقص بين العامية ورصانة الفصحى، وتدفقت كلمات رامى على شواطئ السنباطى والصوت العبقري.

غلبت أصالح فى روحى

سهران.. يا اللى كان يشجيك أنينى

وأنا لو نسيت اللى كان وهان عليه الهوان

اقدر اجيب العمر منين وأرجع الماضى

أيام ما كنا احنا الاثنين

أنت ظالمنى وإنا راضى

جددت حبك ليه ..

هجرتك يمكن أنسى هواك

عزة جمالك فين

وعشرات الأغانى التى أعادت تشكيل الوجدان العربى وارتقت به، وأصبحت زادًا من الإبداع الجميل.

لم يتوقف رامى عند العامية ولكنه من وقت لآخر كان يعود للشعر ويكتب ذكريات ثم كانت رباعيات الخيام أكبر مفاجأة مع أم كلثوم.

ــــــــ وبقى السر: هل كان ما بين رامى وأم كلثوم حبًا، أم كان مشروعًا إبداعيًا جماليًا؟ أحب فيه رامى أم كلثوم الصوت والعبقرية، وأحبت فيه أم كلثوم رامى الشعر والكلمة والإحساس؟ أنا أميل كثيرًا لهذا التفسير، وإن كانت العلاقة بين رامى وأم كلثوم قد وصلت إلى ما يشبه التوحد، فقد سيطرت أم كلثوم وفرضت وصايتها على رامى القلب والإحساس، فإذا تخاصما كتب جددت حبك، وإذا ابتعدا كتب هجرتك، وإذا تألم كتب يا اللى كان يشجيك أنيني. كان من الصعب أن تفصل أم كلثوم عن رامي، أو تجد أم كلثوم من يعوضها عن رامي. كانت أم كلثوم هى المنجم الذى احتله رامى خمسين عامًا وأخذ أغلى ما فيه، وكان رامى أكبر شريك فى صناعة أسطورة سيدة الغناء العربي.

ــــــــ لم يكن من حظى أن ألتقى مع أحمد رامي، وقد أحببت شعره وأغانيه، ولولا ظهور أم كلثوم فى حياته، لكان منافسًا لأكبر شعراء الفصحى فى عصره، ولكنه اختار حديقة صغيرة للغناء حملت اسمه وكبرت حتى أصبحت عالما من الفن الجميل.. كنت أتحدث كثيرًا عن رامى مع رياض السنباطي، وكان عبدالوهاب يرى أنه ملك الأغنية ولا أحد تجاوزه. كان رامى إنسانًا فى غاية الرقة والإحساس.. حكى لى الصديق د.أحمد هيكل قصة عن رامي، قال : ذهبت أزوره فى بيته، وكان جالسًا فى البلكونة وحيدًا، وكان يبكي.. قلت: ماذا يبكيك يا أستاذ؟ قال: اعتدت أن أجلس فى الصباح مع ابنى رامى نشرب القهوة معًا ونحكى وكنت أشعر بسعادة غريبة فى هذا اللقاء، ومنذ أعلن خطبته اختفى ولم يعد يشاركنى قهوة الصباح، والآن أجلس وحدى أنتظره وقد انشغل مع خطيبته.

كان رامى إنسانًا وشاعرًا غاية فى الحساسية، وحين ذهبت إلى رياض السنباطى كى أعزيه فى أم كلثوم، سألته عن رامي، قال: لم يعد يخرج بعد رحيل أم كلثوم، ولا يتكلم إلا قليلًا.. ودّع رامى أم كلثوم بقصيدة بديعة فى أمسية حضرها الرئيس الراحل أنور السادات بكى رامى وفاضت معه دموع الملايين وهو يقول :

ما جالَ فى خاطرى أنّى سأرثيها

بعدَ الّذى صُغتُ من أشجى أغانِيها

قد كنتُ أسمعُها تشدو فتُطربُني

واليومَ أسمعُنى أبكى وأبكيها

صحبتُها من ضُحى عُمرى وعشتُ لها

أذُفُّ شَهدَ المعانى ثمّ أُهديها

سُلافةً من جَنى فكرى وعاطفتي

أديرُها حولَ أرواحٍ تُناجيها

لحنًا يَدبُّ إلى الأسماعِ يَبهَرُها

بما حوى من جَمالٍ فى تُغنّيها

ومَنطقًا ساحرًا تَسرى هواتفُهُ

إلى قلوبِ مُحبّيها فتَسبيها

وَبِى مِنَ الشَّجْوِ، مِنْ تَغْرِيدِ مُلْهِمَتِي

ما قَدْ نَسِيتُ بِهِ الدُّنْيَا وَما فِيهَا

وَما ظَنَنْتُ، وَأَحْلَامِى تُسَامِرُنِي،

أَنِّى سَأَسْهَرُ فِى ذِكْرَى لَيَالِيهَا

كانت قصة رامى وأم كلثوم من أجمل قصص الإبداع فى تاريخ الغناء العربى ولا أدرى من أضاف للآخر أم أنهما توحدا وأصبحا كيانا واحدا من الإحساس والفن والإبداع وكانت الأسطورة.. وبقيت قصة رامى وأم كلثوم واحدة من قصص الإبداع الجميل، والغناء الراقي، والفن الأصيل.

***

..ويبقى الشعر

مُتْ صَامِدا..

واتْرُكْ عُيُونَ القُدسِ تبْكِى

فَوقَ قبرِكَ ألفَ عَامْ

قد يَسقطُ الزمَنُ الردِيءُ..

ويطلعُ الفرسانُ من هذا الحطَامْ

قدْ ينتهى صخبُ المزاد

وتكشِفُ الأيامُ أقنعةَ السلامْ

إنْ نامتِ الدنيَا

وضاعَ الحقُّ فى هذا الركامْ

فلديْك شعبُ لن يضلّ..ولنْ يَنَامْْ

مُتْ صامِداً

وَاتْرُكْ نِدَاءَ الصُّبْحِ يَسْرِى هَادرِا

وسَط الجْماجمِ والعظامْ

اترك لهم عبثَ الموائدِ ..

وَالجراَئِدِ واَلمشَاهِدِ واَلْكَلَامْ

أتْرُكْ لَهُمْ شَبقَ الفسَادِ

ونشوةَ الكُهانِ بِالَمالِ الحرامْ

أطلقْ خُيولكَ منْ قيُودِ الأسْرِ

مِن صَمتِ المآِذنِ

والكنائسِ.. والِخيَامْ

إِن الشُّعوبَ وإِنْ تمادَى الظلمُ ..

سوف تدقُّ أعناقَ السَّمَاسِرَةَ العِظامْ

إِنَّ الشًّعُوبَ وإِنْ تَوَارَتْ

فيِ زمانِ القهرِ

سوفَ تُطلُّ من عليائِهَا

ويعودُ فى يَدهَا الزَّمامْ

فارفعْ جبينَكَ نحوَ ضوءِ الشمْسِ

إنَّ الصُّبحَ آتٍ

لنْ يَطُول بِنَا الظَّلاَمْْ

***

مُتْ صامِدا

مُتْ فوقَ هذِى الأرضِ..

لاَ ترحَلْ وإِنْ صلَبوكَ فيها كالمسِيحْ

فَغَدا سَيَنْبتُ ألفُ صُبْحٍ

فِى ثَرى الْوَطنِ الذّبِيحْ

وَغَدا يُطلُ الفجرُ نُورا

من مآذننا يَصيحْ

وغدا يكونُ الثأرُ

مِن كُهَّانِ هَذَا الْعَصْرِ

والزَّمنِ القبيحْ

فانْثُرْ رُفَاَتكَ فَوْقَ هَذِى الأرْضِ

تَنْفُضْ حُزْنَها

ويُطِل من أشْلائِهَا الْحُلمُ الجَرِيحْ

وأطْلِقْ نَشِيدَكَ فى الدُّرُوبِ لَعَلَّهُ

يوما يعيدُ النبضَ

للْجَسَدِ الْكَسِيحْ

***

مُتْ صامِدا

مَاذَا تُريدُ الآنَ مِنْ هَذِى الحَياهْ؟

مَجْدٌ وَسُلطانِ وتيجانٌ وجاهْ

مَاَذا تَقَولُ

وَأنْت تكْبرُ كُلَّما لاحَتْ

أمَاَم الْقُدسِ أطْوَاقُ النَّجَاهْ

مَاَذا تَقَولُ

وأنتَ ترفعُ أمة سَقَطتْ

وضَاَعَتْ تَحْتَ أقْدَامِ الطُّغاهْ ؟

مَاَذا تَقَولُ

وأنت تبقَى فى ضميرِ النَّاسِ حَيّا

كلمَا نادى المؤذنُ للصَّلاة؟

مَاَذا تَقَولُ

وَأنْتَ أقَوى من زَمَانكَ ؟..

وَأنْتَ أكْبَرُ مِن جَرَاحكَ..

أنْتَ مُعْجزةُ الِإلهْ

أيُّ الُوجُوهِ سَيَذكرُ التَّاريخُ..

جلادٌ حقيرٌ

أمْ شهيد عطرَ الدنيَا ثراهْ.؟

فرقٌ كبيرٌ

بينَ من سلبَ الحياةَ من الشُعوبِ

ومَنْ أعَادَ لها الحَياهْ..

مُتْ صامِدا

والعنْ زمانَ العجزِ والمجدِ المدُنسِ

تحت أقدامِ الغزاهْ

فلكلِّ طاغيةٍ مدي..

ولكل ظلمٍ منتهاه.

مُتْ صامِدا

حتّى ولو هدمُوا بُيوتَ اللهِ

واغتصبٌوا المآذنْ

حتى ولو حرقُوا الأجنةَ

فى البطونِ

وعربدوا وسطَ المدائنْ

حتى ولو صلبُوكَ حيا..لا تُهادنْ

هل يستوى البطلُ الشهيدُ

أمام مأجورٍ وخائنْ؟

كن قبلةً فوق الخليل

وكن صلاة فى المساجدْ

زيتونةً خضراءَ تؤنسُ

وحشةَ الأطفالِ

حين يقودهمْ للموتِ حاقدْ

كن نخلةً

يساقط الأمل الوليدُ على رُباهَا

كلما صاحتْ على القبر الشواهد

***

مُت صامدا

لا شيء يغنى النَّاس عن أوطانِهم

حتى ولو ملكوا قُصورَ الأرضِ

جاها.. أو سكنْ

كُلُّ الَّذى نَبْغِيه مِنْ أوْطاننَا

أنْ نَسْتَرِيحَ عَلَى ثَراَهَا

حِينَ يُؤْوِينَا الْكَفَنْ

بَعْضُ الخُيولِ يمُوتُ حُزْنًا

إنْ تَغرَّبَ لحظةً..

يَغْدُو سَجِينَ المحْبسَيْنِ

فلا أمَانََ..وَلا وَطَنْ

أنت الشَّهِيدُ فِدا لأرضكَ ..لا تَمُتْ

من غير ثأرٍ..أو قصاصٍ..أو ثمنْ

أغمضْ عيونَكَ فوقَ عينِ القدسِ

واصرخْ دائما

إنْ كَلَّ فيهَا العزمُ يوما أو وهَنْ

لا تأتمِنْ من خادَعُوكَ وشردُوكَ وضللُوكَ

وضيعُوا الأوطانَ فى سوقِ المحنْ.

كُنْ صيحةً للحقّ

فى الزمن المُلَوَّثِ بِالدَّمَامةِ والعفنْ

لا تَخْشَ كُهَّانَ الزَّمانِ الوَغْدِ

إنَّ عروشهُمْ صَارَتْ قبورا

فاترُكِ التاريخَ يحكمُ والزمَنْ

------------------

من قصيدة  «مت صامدا » سنة 2003

 

arabstoday

GMT 03:54 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

ماركس بأرقام اليوم

GMT 03:52 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

العراق ونارُ الجِوار

GMT 03:50 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

باسم ياخور... التكويع أو التغيير؟

GMT 03:48 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

الدولة السردية... بين البناء والرواية

GMT 03:44 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

غزة معضلة دائمةٌ للجميع

GMT 03:42 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

عمرو دياب... «الترمومتر»

GMT 03:39 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود أحمد رامى بين العشق والشعر والخلود



درّة زروق بإطلالات كاجوال مثالية في صيف 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 03:05 2025 الإثنين ,14 تموز / يوليو

ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين في قطاع غزة إلى 231
 العرب اليوم - ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين في قطاع غزة إلى 231

GMT 16:11 2025 السبت ,12 تموز / يوليو

استشهاد 67 طفلا في غزة بسبب سوء التغذية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab