بقلم : عمرو الشوبكي
صمد الشعب الفلسطيني في غزة، وتحمل القتل والدمار على مدار عامين من آلة الحرب الإسرائيلية، ونجحت ضغوط الرأي العام العالمي والجهود العربية والدولية في دفع الإدارة الأميركية للتحرك من أجل فرض اتفاق وقف إطلاق النار لم تحترمه إسرائيل بصورة كاملة.
صمود الفلسطينيين ونبل أهدافهم وتضحياتهم في مواجهة الاحتلال، أمر لا يمكن إنكاره؛ ولكن ما هو مطروح الآن، أو بالأحرى «مسوغات» الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة ترمب، هو جدارة الإدارة الفلسطينية للمرحلة الانتقالية، والتقدم خطوات للأمام نحو تعظيم دور «المكوّن الفلسطيني» الموحد في تركيبة من يديرون المرحلة الانتقالية، وممارسة مزيد من الضغوط على دولة الاحتلال، للتوقف عن استمرار عدوانها على قطاع غزة.
تقدم «حماس» سردية تقوم على المقاومة والصمود والبنية العقائدية، وتكرر الحديث عن جرائم الاحتلال والمظالم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وغياب العدالة الدولية. لكن الحركة، حتى اللحظة، لم تنجح منذ انقلابها بالقوة العسكرية على السلطة الوطنية بغزة، في تقديم نموذج نجاح في إدارة غزة يقبل بالتنوع الداخلي، ويفتح الجسور مع منظمة التحرير، ويقدم التنازلات المطلوبة من أجل القضية الفلسطينية والصالح العام.
قد تكون «حماس» نجحت في اختبار الصمود في غزة، ولكنها بالقطع لم تنجح في اختبار جدارة الإدارة والحكم زهاء ما يقرب من عقدين. والحقيقة أن التحديات الحالية ليست لها علاقة بنموذجها في المقاومة المسلحة الذي تراجعت فاعليته. التحديات تتعلق بقدرتها على تبني سياسات جديدة تقبل فيها بالتحول إلى تيار مدني سياسي قادر على المساهمة في بناء نموذج بالحكم والإدارة يُحدث قطيعة مع حالة الانقسام التي هيمنت على المشهد الفلسطيني زهاء ما يقرب من 20 عاماً، ويتحمل وزره كل من «فتح» و«حماس».
بنية «حماس» العقائدية جعلتها حتى اللحظة تتمسك بنموذج السيطرة على غزة والمغالبة لا المشاركة، وهي دخلت في مواجهات مسلحة مع عشائر واتُهمت بقتل أسير محرر، كما أظهرت صور إعدامات الشوارع لمن عدّتهم عصابات مجرمة أو متعاونين مع الاحتلال عدم وعيها بالتحولات الداخلية والخارجية الجديدة، وكان يمكنها أن تحاسبهم بألف طريقة مختلفة عن تلك التي شهدناها. واستمرت الحركة أيضاً في سجال مع السلطة الفلسطينية من أجل السيطرة على غزة، وكأنها «غنيمة سياسية»، وتصرف الجانبان بوصفهما فصائل متناحرة، وليس بوصفهما أصحاب مشاريع وطنية جامعة.
ما حرك ضمير العالم ودفع إدارة منحازة بشكل مطلق لإسرائيل، مثل إدارة ترمب، لأن تتحرك لوقف الحرب؛ ليس «تقدمية» آيديولوجيا «حماس»، ولا جدارة نموذجها في الحكم والإدارة، مثلما جرى مع منظمة التحرير عقب تأسيسها عام 1964، حيث كان لها حلفاء وأنصار يؤمنون بخطها ومشروعها السياسي، ويعتبرونها تجسد النضال الفلسطيني، وكان لها أيضاً خصوم وأعداء. أسست منظمة التحرير لنفسها جدارة في التعبير عن النضال الفلسطيني في الأدب والشعر ومراكز الفكر والأبحاث، والتمسك ثقافياً وسياسياً بالسردية الفلسطينية رغم الشتات، والكفاح السياسي والمسلح، وهذا على خلاف «حماس» التي خاطب مشروعها أنصارها و«إخوانها» في إيران، وبقيت معظم دول العالم بما فيها التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ترفض التعامل معها.
يقيناً العالم العربي والمثقفون العرب منقسمون حول «حماس»، ولكن التحدي المطروح حالياً لا يستدعي هذا الانقسام، لأنه لا يتعلق بالموافقة على نموذجها المسلح، أو عملية «طوفان الأقصى» أو رفضها، وليست له علاقة بشجاعة وصمود عناصرها، إنما في تقديم جدارة سياسية قادرة على تقديم نموذج تحرري يجذب العالم لمشروع بناء الدولة الفلسطينية.
الوضع الحالي أصعب من مسار أوسلو، رغم أن التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية بعد الجرائم الإسرائيلية لم يحدث بهذا القدر في أي مرحلة سابقة، ولكنه يمكن أن يتبخر أو يتراجع إذا لم تقدّم القيادات الفلسطينية نموذج جدارة في الإدارة؛ يوحّد الجهود ويقبل بالتنوع الداخلي والاختلاف من داخل المشروع الوطني الفلسطيني.