بقلم : مصطفي الفقي
عندما أتم النعمان بن المنذر بناء قصره الشهير المسمى الخورنق والذى قام به مهندس مرموق فى عصره يدعى «سنمار» رأى النعمان ألا يتم بناء مثيل لهذا القصر ويبقى هو النموذج الأوحد فى زمانه، وأثناء محادثة بين الأمير والمهندس ألقاه الأمير من أعلى القصر فسقط صريعًا، فصار مثلا لمن ينال جزاء عكسيًا أنه نال جزاء سنمار، وأنا أسوق هذه القصة الشهيرة فى التاريخ العربى لكى أدخل إلى الموضوع الذى أكتب فيه اليوم وهو المتصل بالمناضل المصرى والثائر الذى نال جزاء سنمار.
وأعنى به يوسف صديق الذى تحرك بقواته قبل موعده بساعة أو ما يزيد ليعتقل كل رموز الجيش الملكى المصرى عشية الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢، وكان لذلك الخطأ غير المقصود من جانبه الفضل فى إنقاذ الثورة المصرية لأن الأنباء عن وجود حركة تمرد فى الجيش وثورة بدأت فى بعض صفوفه كانت قد بلغت مسامع القصر الملكى وقيادة الجيش، ولكن تلك الحركة الاستباقية التى قادها يوسف صديق يرجع إليها الفضل فى إنقاذ الثورة من الفشل ونجاحها باعتقاله للقيادات من أعوان الملك فاروق الأول بقيادة جيشه ومراكز التأثير فيه.
واستيلاء الضباط الأحرار بعد ذلك على السلطة فى البلاد، ولقد حكى لى يوسف صديق المعاناة التى مر بها إذ لم يقدر رفاقه أهمية التحرك الاستباقى الذى قام به ذلك الضابط المثقف رفيع القدر عالى المكانة وحكى لى شخصيًا أثناء تواجدنا فى لندن نهاية عام ١٩٧١ القصة كاملة، وكيف أنه أبعد عن وطنه بعد ذلك وطمس الفضل الذى يرجع إليه ضابطًا ثائرًا لم ينل ما يستحقه من تكريم وعرفان، وكان مما قاله لى على ما أتذكر أنه فى تلك الليلة شعر بآلام فى صدره ودماء فى فمه فجرى إعطاؤه حقنة مسكنة أوقفت النزيف، والغريب أن ذلك لم يعد إليه بعد ذلك أبدًا، وكأنما أراد الله أن يتم ذلك الرجل النقى مهمته دائمًا، وقد كنا نقيم معًا فى فندق واحد فى العاصمة البريطانية، حيث جرى تعيينى وقتها نائبًا للقنصل المصرى فى لندن وكان يوسف صديق هناك يعالج تحت إشراف القنصلية العامة هناك.
وكان الرجل يشعر بمرارة شديدة وهو يحكى لى محاولات الغدر به والإساءة إلى دوره والتقليل من شأنه، وأتذكر جلساتنا فى شهر سبتمبر من ذلك العام وهو يروى لى بعض شؤونه وشجونه، وقد عرفت بعد ذلك أن زميل دراستى وصديقى عبد القادر شعيب قد تزوج ابنة ذلك المناضل الكبير وقد تدرج عبدالقادر فى مواقعه حتى أصبح رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال.. هذه صفحة مطوية من تاريخ الثورة التى قادها جمال عبدالناصر عشية الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢.. رحم الله من قضى إلى رحاب ربه وأطال فى عمر الأحياء من المناضلين الشرفاء.