في تحول لافت عن السياسات الدفاعية التي حكمت توجهات وزارة الدفاع الأميركية لعقود، كشفت مسودة استراتيجية جديدة، اطلعت عليها مجلة "بوليتيكو"، أن البنتاجون يعكف على إعادة توجيه أولوياته الدفاعية نحو الداخل الأميركي والنصف الغربي من الكرة الأرضية، متجاوزًا التهديدات الخارجية التقليدية، وعلى رأسها الصين وروسيا.
وتفيد المعلومات، نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة على الصياغات الأولية للوثيقة، أن الاستراتيجية الجديدة وصلت مؤخرًا إلى مكتب وزير الدفاع بيت هيجسيث، وتضع المهام المحلية والإقليمية في صدارة اهتمامات البنتاجون، وهو ما يشكل تحولًا جوهريًا عن الاستراتيجيات السابقة التي لطالما اعتبرت الصين التهديد الأكبر للمصالح الأميركية، خاصة منذ عهد إدارة ترمب الأولى في 2018.
وبحسب المصادر، فإن الخطة الدفاعية الجديدة تتضمن تعزيز الوجود العسكري داخل الولايات المتحدة، عبر نشر آلاف من عناصر الحرس الوطني لدعم أجهزة إنفاذ القانون في مدن كبرى مثل لوس أنجلوس وواشنطن، إلى جانب إرسال مقاتلات وسفن حربية إلى البحر الكاريبي ضمن مهام مكافحة التهريب ووقف تدفق المخدرات إلى الأراضي الأميركية.
كما أنشأ البنتاجون منطقة عسكرية جديدة على طول الحدود الجنوبية مع المكسيك، تتيح للقوات المسلحة احتجاز المدنيين، وهو إجراء غير مسبوق، كان تقليديًا من مهام أجهزة الأمن الداخلي وليس الجيش.
وبينما لا تزال الاستراتيجية في طور المراجعة النهائية، إلا أن التوجهات العامة بدأت تتضح، وتشير إلى رغبة إدارة ترمب الثانية في تقليص الالتزامات العسكرية الخارجية، والتركيز على التحديات الداخلية والإقليمية المباشرة، وهو ما يثير قلق حلفاء واشنطن في أوروبا وآسيا.
أحد المطلعين على مسودة الوثيقة صرح لـ"بوليتيكو" بأن هذا التحول "قد يغيّر قواعد اللعبة بالكامل بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في عدة قارات"، مضيفًا أن "الوعود الأميركية التي لطالما عُرفت بموثوقيتها باتت اليوم محل تساؤل".
ويأتي هذا التغيير في وقت لا يزال فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب يطلق تصريحات حادة ضد بكين، ويتهمها بالتآمر ضد الولايات المتحدة، رغم أن خطابه السياسي لا يبدو منسجمًا مع التحولات الفعلية داخل وزارة الدفاع، والتي يتصدرها إلبريدج كولبي، أحد أبرز مهندسي استراتيجية 2018، والمعروف بدعواته لسياسة دفاع أميركية أكثر انعزالية.
كولبي، الذي عاد إلى البنتاجون في إدارة ترمب الثانية بصفة كبير مسؤولي السياسات، يقود مراجعة شاملة للوضع العسكري الأميركي العالمي، تشمل مراجعة مواقع الانتشار العسكرية، وإعادة تقييم القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية في مختلف مناطق العمليات. ومن المتوقع صدور نتائج هذه المراجعات خلال الشهر المقبل.
وتؤكد المجلة أن الوثائق الثلاث المرتبطة بالاستراتيجية، ومراجعة الوضع العسكري، واستراتيجية الدفاع الجوي، تتقاطع جميعًا في تأكيدها على ضرورة تقليص الالتزامات الخارجية، وتحميل الحلفاء مسؤوليات أكبر عن أمنهم القومي، في مقابل تركيز واشنطن على حماية مصالحها الأقرب جغرافيًا.
في هذا السياق، بدأت تظهر مؤشرات عملية على هذه السياسة الجديدة، إذ نقلت "فاينانشال تايمز" مؤخرًا أن مبادرة البنتاجون لأمن دول البلطيق، التي تمنح مئات الملايين من الدولارات سنويًا لتعزيز دفاعات لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، ستشهد تقليصًا كبيرًا في التمويل هذا العام.
وأكد مسؤول في البنتاجون ودبلوماسي أوروبي صحة هذه الأنباء، مشيرين إلى أن تقليص التمويل سيؤثر على صفقات تسليح مهمة تشمل منظومات دفاع مثل HIMARS الأميركية.
كما يتوقع أن تشمل خطة إعادة الانتشار العسكري الأميركي سحب بعض من القوات البالغ عددها نحو 80 ألف جندي في أوروبا، وإن بقيت التفاصيل الدقيقة خاضعة لقرارات الرئيس الأميركي ومستجدات الوضع السياسي.
وفي الوقت نفسه، حرص ترمب على طمأنة القيادة البولندية خلال لقائه الرئيس كارول ناوروكي في البيت الأبيض، مؤكدًا بقاء القوات الأميركية في بولندا، دون أن يستبعد تقليص أعداد القوات في دول أوروبية أخرى.
ورغم استمرار ترمب في خطاب المواجهة ضد الصين، فإن استراتيجيته الدفاعية تمضي في مسار يعكس انكفاءً نحو الداخل، وانسحابًا تدريجيًا من الالتزامات العسكرية الدولية، في مشهد يعكس بداية مرحلة جديدة في السياسة الدفاعية الأميركية، قد يكون لها تداعيات بعيدة المدى على التوازنات الجيوسياسية حول العالم.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك