بين قوة الذكريات وذئاب الذاكرة
آخر تحديث GMT21:33:54
 العرب اليوم -

بين قوة الذكريات وذئاب الذاكرة

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - بين قوة الذكريات وذئاب الذاكرة

القاهرة ـ أ.ش.أ

قوة الذكريات تشكل زادا ثقافيا ومددا ابداعيا يتبدى في جديد الكتابات فيما المفردة او الكلمة ذاتها تتحول الى خلية حية لها ذاكرتها عندما تدخل ضمن سياق او بنية ابداعية..خلية لها اسرارها وشخصيتها وكيانها ووظيفتها ومقامها المعلوم في المحتوى الكلي وبالتالي لها ذاكرتها. وهاهو القاص الياباني الشهير هاروكي موراكامي يعود للذاكرة ويتوقف عند منتصف ستينيات القرن العشرين ويكتب قصته الأخيرة "قيادة سيارتي" بعد عمل اخر من تجليات الذاكرة بعنوان "رجال بلا نساء" حيث طوكيو المضطربة باحتجاجات الشباب. موراكامي من كتاب "الذاكرة" بامتياز فيما تتجلى في اعماله مشاعر الحنين للماضي وقد يذهب بعيدا لحد تقمص نجوم الأدب والكتابة في ذاكرة العالم مثلما فعل في كتابه "كافكا على الشاطيء" ليصنع نموذجه الخاص للكاتب التشيكي الراحل فرانز كافكا. وفي الحياة اليومية قد تشكل الذاكرة لمن اراد مناعة في مواجهة نوازل الدنيا وزلزلة الكينونة واهتزاز الثقة بالذات واجتثاث الجذور والقذف في صحراء العدم..فالذكريات تحيل للخصوصية وتفرد النسيج وثراء الملكوت الانساني في مجابهة المسخ والالغاء والقولبة. وقد تدخل ذكريات موغلة في البعد في هذه المجابهة التي تتطلب تعزيز المناعة وتأكيد الخصوصية وتفرد الوجدان وسريان خفي اسرار الروح في البنية الانسانية بما يشكل حيثيات وجود جدير بالوجود .! ذكريات في اقصى الذاكرة وتفاصيل صغيرة لكنها حميمة قد تعيد ولاء الذات لأفضل ماعرفته الذات وتروي القلب برحيق التزود والتجدد وامكانية قراءة الذات بصورة اكثر صدقا وفاعلية. من الذي ينسى اول يوم ذهب فيه للمدرسة واول يوم دخل فيه الجامعة واول يوم التحق فيه بعمل واول طائرة استقلها واول مرة دق فيها القلب بشيء اسمه الحب؟!..من الذي لايستعيد وجوه الأصدقاء والزملاء على مقاعد الدراسة والأساتذة الذين قدموا العلم وشكلوا الوجدان؟..حتى الشوارع لها ذاكرتها بل ان المرء قد يلوذ بطريق ما او شارع بعينه في لحظات استثنائية بحثا عن الآمان وصفاء التفكير. فالذكريات قوة والذاكرة طاقة ولذة الابحار في الذات والترحال في الذاكرة قد تحلو اكثر في ليالي الشتاء وكأن ذاكرة الشتاء هي ذاكرة موازية صافية للذاكرة المحتشدة بلحظات مكثفة كأنها سنوات وبكثير من ضجيج الأيام السابلة ولغو العادي. ومع الذاكرة فالمحبوب ليس مسكونا بالغياب وانما هو متوهج بالحضور ومن ثم فان برودة السؤال :"متى تتذكره؟! مردود عليه من سخونة الذاكرة بسؤال مقابل :"بل متى يمكن ان انساه"؟!..فطالما الذاكرة حاضرة لن يغيب المحبوب ولا يمكن الا ان يكون في حضور. والطريف ان الشاعر والكاتب الفرنسي برنار نويل عندما حاول في كتابه "النسيان" التأكيد على اهمية النسيان وتحرر الكاتب من سطوة الذاكرة وهيمنتها حتى يقدم الجديد والمغاير عاد ليثبت اهمية الذاكرة عندما قال في هذا الكتاب "لاشيء يضيع مع النسيان فما ننساه يظل موجودا في مكان ما ثم يعود الى الظهور في الكتابة لاكما كان ولا الى ماكان بل كما ينبغي ان يكون".! وهذا الكتاب يتضمن اشارات دالة لقضية الذاكرة والنسيان والحقيقة ان العلاقة بينهما جدلية وحافلة بالغرائب والمدهشات واذا كان هناك من يتحدث عن "اهمية التحرر من استبداد الذاكرة لانتاج معنى جديد" فمن الذي بمقدوره انتاج معنى جديد بلا ذاكرة؟!..لعل الصحيح هو استخدام الذاكرة ابداعيا لتجنب التكرار وتجاوز ماكتبه الآخرون تماما كما انه من الصحيح ان لاكتابة عظيمة دون قراءة اعظم. ام اننا في زمن معاد للذاكرة هو زمن النسيان والذي سبق وان وصفه الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في رسالة لزوجته من السجن بقوله "نحن نعيش زمنا لايذكر فيه الناس موتاهم اكثر من ايام"؟!. والذكريات قد تكون منذ لحظات او ساعات قليلة "حياة مفعمة بالحياة" حتى اغتالتها يد الغدر كما هو الحال مع كلمات والدة الطفل محمد بدوي وهي تتحدث عن ابنها الوحيد الذي قتل يوم الجمعة الماضية وهو لم يكمل بعد عامه الثاني عشر. إذا كانت الحياة لاتمهل احيانا من نحبهم لكتابة المزيد من الوقائع فهل تتكفل الذاكرة باعادة كشف بعض الوقائع ومنحها معان لم ترد في الذهن قبل الرحيل؟!..والمكان ليس مجرد وعاء للأحداث وانما يمارس تأثيراته ويراكم ذاكرته في هؤلاء الذين تأثروا به واثروا فيه. هنا عند مستشفى ام المصريين بالجيزة ستبقى الذكريات طويلا ووالدة الطفل محمد بدوي تتحدث عن "هؤلاء الذين اغتالوا فرحتها واطلقوا رصاص الغدر ليقتلوا حلم عمرها وحلم والده الذي ذهب للعمل بعيدا لعله يوفر نفقات التعليم للابن الوحيد الذي تمنى ان يكون طبيبا"..هل يكتب الفصيل الذي اسقط الشعب المصري حكمه في ثورة 30 يونيو ذاكرة جديدة للعنف؟!. النظرة التركيبية للذاكرة تؤكد على اهميتها في معرفة الذات وان احدا لايمكنه ان يعبر الأمواج المتلاطمة في هذا العالم دون ان يجتاز امواج بحر الذات ودون ذلك فالأمر اشبه بالمريض الذي يبحث عن دواء لعلل الآخرين متجاهلا علاج علته المتفاقمة!. والصدق يحول دون استعطاف الذاكرة او التحايل عليها لفتح ابوابها المغلقة.. فبالصدق والحب ونداءات الحنين الذاكرة تنثال وفية مطيعة ودودة. واذا كانت الذكريات زاد لاينفد لكثير من الكتب ولعل المذكرات وكتب السير الذاتية هي التجلي المباشر لبنية الذاكرة فهنا يكون معامل الصدق مع الذات والآخر اهم عوامل جدارة هذا النوع من الكتابة بالقراءة. وحتى على مستوى التصريحات او المقابلات هاهو النجم السينمائي الأمريكي كريس برات يقول انه قام بأعمال كثيرة قبل شهرته السينمائية من بينها غسل السيارات وقطف التوت وجز العشب من الحدائق كما عمل لفترة جليسا للأطفال..هل الذكريات بحاجة لمن يوقظ اشواقها؟!. اعذب الذكريات تنثال دوما من قلم الكاتبة سناء البيسي وهاهي قد استدعت ذكرياتها عن اسرة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بمناسبة ذكريات السيدة الجليلة تحية عبد الناصر التي صدرت في كتاب روت فيه الزوجة الراحلة تفاصيل حياتها مع ناصر على مدى 26 عاما وثلاثة اشهر. تقول سناء البيسي :استعيد المذكرات واحداثها مرارا كخلفية تاريخية لمصر وسنوات ناصرها : زفاف العروسين يوم 29 يونيو 1944 ومسكن الزوجية وصعود السلالم حتى الدور الثاني وجمال يحملها من الدور الثاني للدور الثالث ثم جرح عبد الناصر في حرب فلسطين عام 1948 ولقطات من الحياة الزوجية الحميمة والخروج معا للسينما وثورة 23 يوليو 1952 . وهاهو الكاتب والمحلل السياسي الدكتور اسامة الغزالي حرب يستدعي ذكرياته في سياق تناوله للعلاقات المصرية-الروسية معتبرا ان لروسيا والاتحاد السوفييتي السابق تاريخا ناصعا مع مصر والمصريين ويقول :"انتمي الى الجيل الذي عاصر في طفولته الانذار الروسي الشهير الذي وجهه بولجانين الى بريطانيا وفرنسا في عام 1956 في غمار الأزمة التي فجرها تأميم عبد الناصر لقناة السويس". ويضيف :"انتمي الى الجيل الذي عاش في صباه وشبابه معركة بناء السد العالي التي خذلنا فيها الأمريكيون فقام الروس بمساعدتنا في بنائه في واحدة من امجد واعظم ملاحم البناء والانجاز والبطولة في مصر فضلا عن العديد من المشروعات الصناعية التي كانت روسيا فيها خير سند لمصر التي حققت اهم انجازاتها العسكرية الحديثة اي حرب اكتوبر 1973 بواسطة السلاح الروسي". انها ذكريات انثالت مع الزيارة التي سيقوم بها وزيرا خارجية ودفاع روسيا للقاهرة بعد غد "الأربعاء" تمهيدا لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمصر فيما لم يسبق ان زار وفد روسي مصر على هذا المستوى الرفيع منذ دخول الاتحاد السوفييتي في ذمة التاريخ في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي وتحوله الى "مجموعة ذكريات". وكثيرة هي الذكريات التي يثيرها كتاب "وجع الذاكرة" للشاعرة والكاتبة الكويتية سعدية مفرح والذي يحوي بين دفتيه وعبر صفحاته التي تقارب ال200 صفحة قصائد ل15 شاعرا فلسطينيا بدءا من ابراهيم طوقان وحتى سميح القاسم ومحمود درويش وابراهيم نصر الله هم "حراس وجع الذاكرة". الذكريات قد تنثال ايضا مع التأكيدات الجديدة على ان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قتل مسموما بمادة بلوتنيوم كحبة الملح او السكر الصغيرة جدا ليطل وجه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وزمنه والقصص التي لم تحسم حتى الآن حول مااذا كان قد رحل بصورة طبيعية ام ان يد الغدر دست له السم لتدخل الأمة في مرحلة اليتم الطويل والذكريات الباكية. وللذكريات ان تبكي مع استدعاء صورة احد انبل الزعماء العرب في زمن مضى وامة خلت وهو الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الذي تحوم شبهات قوية للغاية حول حقيقة رحيله المبكر ومااذا كان هذا المناضل قد نالت منه اليد المسمومة لتسممه ويبكيه شعبه وكل من يعرف قدره في هذا العالم. ذكريات زمن تألقت فيه اسماء مثل المجاهدة الجزائرية جميلة بو حيرد التي خلدتها السينما المصرية بفيلم بتوقيع المخرج الراحل يوسف شاهين وهاهي قد خرجت مؤخرا من عزلة طويلة لتنفي شائعة موتها وتتحدث عن "هؤلاء الذين يريدون دفنها وهي حية" وتظهر قلقها على مستقبل بلادها التي ضحى من اجل استقلالها اكثر من مليون شهيد انها "الذاكرة المقاومة" التي تواجه ارتجافات اللحظة والحياة على جرف هار وكأنها الترياق للصمود رغم ضربات الأيام ومطارق الأحزان كما ان من يدافع عن ذاته انما يدافع ضمنا عن ذكرياته بدلا من الحياة على ذمة الخواء في اللامكان واللازمان. ومن احدث الأفلام العربية التي تتناول حكايات المكان والذاكرة الفيلم اللبناني "عصفوري" للمخرج فؤاد عليوان العاشق للمكان في بيروت والذي يرى ان عمليات اعمار مدينته تشكل عدوانا على ذاكرتها فهي تغير وجه بيروت وتدفن روحها. فالفيلم ادانة "لثقافة المقاولين التي تردم ذاكرة المكان وقد تشطب اعز الذكريات او تلتهمها بأنياب الجرافات الجاهلة" ولعل ماتفعله "المقاولات السياسية في الأوطان" اخطر من مقاولي البلدوزرات وهاهي مسرحية "حلم بلاستيك" لفرقة "اتيليه القاهرة" ترصد على خشبة مسرح الطليعة "ذاكرة الوجع" لجيل من الشباب لم تتحقق احلامه بعد رغم الثورة والتضحيات. الفن دوما محل ترحيب من كل الأسوياء لكن هل تستسيغ ذاكرة القدس وهي تحت الاحتلال هذا المهرجان الذي يستمر حتى الثالث والعشرين من شهر نوفمبر الجاري تحت عنوان :"ليالي الطرب في قدس العرب"؟!. الا يوحي مهرجان كهذا ولو دون قصد بأن الأمور طبيعية وهل ثمة حيز في الذاكرة المعذبة للمدينة لليالي الطرب؟!..ام ان الطبيعي ان يقام المهرجان عندما تتحرر المدينة وتنعتق من ربقة الاحتلال وتزيل العدوان على الذاكرة وتعود القدس قدسا للعرب والانسانية كلها؟. وفيما نجحت وزارة الآثار المصرية في استعادة 90 قطعة اثرية كانت معروضة للبيع مؤخرا في احدى صالات المزادات بالقدس يقول علي احمد مدير ادارة الآثار المستردة ان قطعا اثرية اخرى تنتمي للحضارة المصرية القديمة رصدت معروضة للبيع في صالات المزادات باسرائيل. هكذا يكون السؤال التلقائي في هذا السياق:"من يسرق ذاكرتنا وكيف خرجت هذه الآثار من مصر"؟!..هل تكون بفعل "ذئاب الذاكرة" انيقة المخالب وسارقة الفرح المرتجى؟!.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين قوة الذكريات وذئاب الذاكرة بين قوة الذكريات وذئاب الذاكرة



GMT 23:31 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 23:06 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 08:56 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

شهيد في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة جنوب لبنان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab