العقل البريطانى وصياغة المستقبل

العقل البريطانى وصياغة المستقبل!

العقل البريطانى وصياغة المستقبل!

 العرب اليوم -

العقل البريطانى وصياغة المستقبل

بقلم : مصطفى الفقي

عائد أنا من زيارة سريعة لمدينة «لندن»، وهى فى تكوينى الفكرى والثقافى «أم المدائن»، فيها تعلمت ومنها حصلت على الدكتوراه، وأنجبت ابنتى، واشتريت شقة عام 1973، مازلت أمتلك بديلًا لها حتى الآن، وكلما هبطت فى «مطار هيثرو» شعرت وكأننى أهبط قريتنا فى «مركز المحمودية» بـ«محافظة البحيرة»، وعندما أمضى فى شوارع (مدينة الضباب سابقًا)، فإننى أشعر بحنين قوى إلى أيام الشباب فى تلك المدينة التى لا يستأثر أحد بملكيتها، فهى مدينة عالمية تحتضن كل مقيم فيها، وتبدو أقل عنصرية من كثير من الدول الغربية الأخرى، ولعل احتفاظ شوارع «لندن» ومبانيها بالطراز المعمارى الذى بدأت به- وإحداث التغييرات من الداخل فقط دون المساس بالواجهات- هو أمر أعطى تلك المدينة عراقة وأناقة وتألقًا، ويبدو أن العقل البريطانى قد مضى على نفس الوتيرة، فمظاهر تصرفاته واحدة، وسلوكه لا يختلف وهو يختزن من الخبرات والتجارب ما يجعله مخزنًا لقيم خاصة وأفكار ثابتة وتقاليد لا تتغير، ولقد حرصت هذه المرة على أن أستطلع الصورة التى يرانا بها أولئك الذين يعرفوننا جيدًا من أبناء الدولة التى صنعت إمبراطورية كبرى كانت لا تغرب عنها الشمس، واكتشفت أن العقل البريطانى هو عقل داهية، يحرك سياسات العالم على أطراف أصابعه، ويختلق المشكلة ليحلها، ويصنع الأزمة ليستثمر نتائجها، بل إننى أظن أن جزءًا كبيرًا من السياسات المعاصرة والأطر الراسخة للعلاقات الدولية، بل المشكلات الإقليمية، هى كلها صناعة بريطانية، وعندما سألت بعض أصدقائى من الدبلوماسيين البريطانيين الذين تربطنى بهم صداقة طويلة، اكتشفت أن إجاباتهم لا تخلو من إدانة مستترة لسياسة بلادهم تجاه «مصر»، ودعمها الذى لا يخفى على أحد لجماعة الإخوان المسلمين، واستهجانهم للموقف البريطانى المتحامل نسبيًا على الرئيس المصرى ومواقفه الوطنية وسياساته المستقلة، وفى ظنى أن «لندن» لا تريد لـ«مصر» الانهيار أبدًا، ولكنها لا تتمنى أن تراها مسيطرة إقليميًا ومنتشرة عربيًا وأفريقيًا، لأنهم يتذكرون «محمد على» وما فعله، و«جمال عبدالناصر» وما قام به، فضلًا عن التأثير القوى للسياسة البريطانية على المواقف الأمريكية، ومازلنا نذكر أن «هنرى كيسنجر» ذلك الدبلوماسى الاستراتيجى صاحب السياسات طويلة المدى الذى تعامل دائمًا بنظرية (الغموض البناء)، كان لا يأتى إلى «الشرق الأوسط» لمقابلة الرئيس الراحل «السادات» إلا مارًا بالعاصمة البريطانية طلبًا للمعلومات المؤكدة، ولا يعود إلى بلاد

ه إلا بالمرور أيضًا على «لندن» لتحليل المواقف والوصول مع خبراء الخارجية البريطانية وأجهزة الأمن الدولى هناك حول مستقبل الصراع (العربى- الإسرائيلى) ودرجة استقرار «الشرق الأوسط» وكيفية التعامل مع القوى الأخرى فى المنطقة، كل هذه المعانى طافت بخاطرى فى هذه الزيارة، وقد رأيت أنها ليست فقط صورة المصرى التى تبدو مهتزة أمامهم، بل إنهم بدأوا يضيقون بصورة العربى عمومًا، بما فى ذلك أثرياء الخليج أنفسهم، وقد سمعت أن الشارع العربى فى وسط العاصمة، وهو «إدجوار رود» قد أصبح مصدر قلق للإنجليز بسبب التسيب الذى يشهده والفوضى التى يعيش فيها القادمون العرب إليه من كل مكان، لذلك قررت سلطات مدينة «لندن» أن كل ترخيص لأحد المقاهى أو المطاعم أو حتى الصيدليات فى ذلك الشارع هو غير قابل للتجديد فى محاولة لاستعادته لحظيرة القانون البريطانى بعد أن ملأته أعداد من مركبة «التوك توك» المزخرفة، والتى تصدح فيها موسيقى صاخبة وتذرع الشارع ذهابًا وجيئة فى انفلات غير معهود داخل المجتمعات الأوروبية، ولابد أن الإنجليز قد بدأوا فى إجراء موازنة بين العائد الاقتصادى لذلك الشارع والمردود السلبى على التقاليد البريطانية فى ذات الوقت، وهو ما جعلهم يشعرون أن استمرار الوضع بهذه الصورة سوف يسلب عن «بريطانيا» جزءًا من شخصيتها الدولية ويحرمها أيضًا من احترام الذات والشعور بالقيمة الحقيقية للفرد داخل مجتمعه أو خارج وطنه، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث الآتية:

أولًا: إن اقتصار الوجود المصرى فى «بريطانيا» على الدفاع فقط عما يجرى توجيهه لـ«مصر»- قيادة وشعبًا- من اختلاقات تصل إلى حد الافتراء، هو رد فعل تاريخى لتعامل طويل على مر العصور، وقد حان الوقت لكى يدرك البريطانيون الوجه الجديد للشباب المصرى، وأن يدرك المصريون على الجانب الآخر التطورات المحتملة للتقارب (الأمريكى- البريطانى) بعد خروج «لندن» من «الاتحاد الأوروبى».

ثانيًا: إن «مصر» شريك تجارى كبير مع «المملكة المتحدة»، ولابد أن يكون هناك ما يستثمر تلك العلاقات الاقتصادية ويترجمها سياسيًا حتى تتخلى «لندن» عن سياساتها المتحفظة تجاه «مصر».

ثالثًا: إن جرائم الإرهاب على الأرض المصرية يجب أن تكون ناقوسًا يدق أمام الضمير البريطانى حتى يخرج من صفوفه ساسة ومفكرون ومثقفون يرفضون الدعم غير المباشر لجماعة الإخوان المسلمين، وهو دعم تمارسه الحكومات البريطانية رغم أنها تدرك كلها أهمية «مصر»، حتى إن المثل البريطانى التقليدى يقول: «إذا عطست (مصر) فإن ذلك يعنى أن (الشرق الأوسط) كله قد أصابته الأنفلوانزا»!

إن علاقات «القاهرة» و«لندن» تحتاج إلى مراجعة يمكن أن نستعين فيها ببعض السفراء البريطانيين السابقين ممن عرفوا «مصر» فى مراحلها المختلفة وتعاطفوا مع سياساتها، إلى جانب أسماء مصرية قد يكون لها قبول فى بعض الدوائر البريطانية مثلما كان شيوخ العقل من أبناء الطائفة «الدرزية» محسوبين تاريخيًا على «لندن»، وكان ذات الأمر بين الطائفة «المارونية» والدولة الفرنسية.. دعنا نتطلع إلى يوم يصبح فيه المصريون نماذج مقبولة لدى الرأى العام البريطانى، يؤثرون فيه ويعتمدون عليه فى مواجهة سياسات ظالمة عرفها «الشرق الأوسط» طوال العقود الأخيرة.

المصدر : صحيفة المصري اليوم

arabstoday

GMT 11:02 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

اعترافات ومراجعات (51) الهند متحف الزمان والمكان

GMT 20:05 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

من دفتر أحوال مصر.. فصل جديد

GMT 18:58 2024 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

مصر فى عيون شرق وغرب المتوسط

GMT 19:18 2024 الإثنين ,18 آذار/ مارس

الكفاءات الصاعدة والجيل الجديد

GMT 19:22 2024 الإثنين ,11 آذار/ مارس

ملاحظات حول السابع من أكتوبر 2023

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العقل البريطانى وصياغة المستقبل العقل البريطانى وصياغة المستقبل



بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:30 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

إسرائيل تعتقل 40 فلسطينيا في الضفة الغربية

GMT 18:04 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 5.6 يضرب ولاية توكات شمال تركيا

GMT 02:31 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

سماع دوى انفجارات في أصفهان وسط إيران
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab