«حمار الحكيم» يتذكر

«حمار الحكيم».. يتذكر!

«حمار الحكيم».. يتذكر!

 العرب اليوم -

«حمار الحكيم» يتذكر

بقلم : مصطفى الفقي

انتابت الحمير حالة ذعر، بعدما بلغ أسماعهم أن عمليات ذبحهم قد أصبحت خبرًا متكررًا فى الصحف وغيرها، من مصادر الأنباء على نحو دعا الحمير إلى عقد مؤتمر عام لمناقشة هذه الكارثة، فتحدث أحدها قائلًا: لقد عشنا مع المصريين لآلاف السنين فى طاعة عمياء وصبر بلا حدود، تركزنا فى القرى وبين الحقول، واكتفينا بالقليل من الطعام والشراب، ولم نتمرد على راكب واحد كبيرًا أو صغيرًا، وكان عزاؤنا أننا حيوان نافع يحبه صاحبه، ويتعامل معه بمودة، وكان الذبح فقط للماعز والخراف والبقر والجاموس وحتى الجمال، أما نحن والخيل، فكنا فى مأمن من هذه النهايات الدامية، ورغم أن الحصان يشعر باستعلاء علينا، فإننا رضينا بواقع حياتنا، واعتبرنا أن البغل وسيط مشترك فى حلقة الحياة بين الحمير والخيل، فما الذى جرى يا ترى، وأحال حياتنا إلى جحيم؟! لو أن توفيق الحكيم كان حيًا لتحدث مع حماره فى مسرحية ساخرة تهز الوجدان وترفع القهقهات!

فالحمار رفيق الزمان وصديق الإنسان ولم نكن نتوقع ضده هذه التصرفات القاسية من ذبح وسلخ، هل الآن أصبحت لحومنا مقبولة للناس حتى يخرج مسؤول فى مصلحة الطب البيطرى ليعلن أنها غير ضارة بالإنسان ويهرع التجار الصينيون وشركاؤهم المصريون فى سلخ جلودنا من أجل تجارة رابحة! ليت «توفيق بك» يعود إلينا بـ«البيرية» و«العصا» ليرفعها فى وجه من عصى، وخرج على محبته التاريخية لحماره الوفى! ويكفينا أن «الحكيم» كان صديقًا عزيزًا لهذا الحيوان الطيب، ولا عجب فهو الأب الشرعى للمسرح المصرى وصاحب «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب فى الأرياف» و«أهل الكهف» إنه ذلك المصرى العبقرى الذى لم تتجرأ مؤسسة «نوبل» للجائزة العالمية فى الأدب أن تتخطاه فى حياته حتى رحل عام 1987 وبعدها بسنة واحدة جاءت الجائزة فى العالم التالى لعمنا العظيم «نجيب محفوظ»! إن «حمار الحكيم» يناجيه فى قبره يشكو له ظلم البشر وجشع الناس وسقوط هيبة الحمار ومحاولة الجحوش الصغار الهروب عبر الحدود حتى لا تقع تحت سكين جزار لا ضمير له، ولا خلق، لم يحترم عشرة آلاف السنين، ولا صحبة الحقول والطرق الفرعية و«المدقات» الصعبة، فجاء الآن ليلوث يديه بدماء الصديق والرفيق دون وخزة ضمير أو إحساس بالذنب! عندئذ صاحت الحمير فى نهيق متصل تبكى على الأيام الخوالى والعصور الماضية، ورفعوا صورة كبيرة لحمار الحكيم يحيط به جحشان صغيران للحراسة والتكريم، وتوالت الخطب التى تتحدث عن فضل الحمار وتاريخه الطويل ووجوده منذ عشرات القرون فى دول الشرق الأوسط وبعض دول حوض البحر المتوسط وجزره فضلًا عن غرب وأواسط آسيا وغيرها من بقاع العالم، واستقر رأى الحاضرين وسط ثورة غاضبة خصوصًا من الجحوش على الدعوة العاجلة لمؤتمر دولى للحمير يجرى عقده فى جزيرة مالطا- أكبر معقل للبغال التى تتعاطف مع قضية آبائها أو أمهاتها من الحمير، وأصبحنا أمام مشهد انفعالى جامح، وإذا بوفد من الخيول يصل فجأة للمؤتمر التحضيرى للحمير لتقديم العزاء وإعلان التأييد والمساندة، ثم وصل بعده مباشرة وفد من بغال مالطا ليؤكد الدعوة إلى المؤتمر الكبير واستضافتها له فى الجزيرة الصامتة التى لا يسمع فيها الآذان!

وقام أحد شعراء الحمير ليناجى توفيق الحكيم بلغة حزينة ونبرات مؤثرة، لا تخلو من نهيق متقطع، يعبر عن الظروف الطارئة التى يمر بها الحمير فى «مصر المحروسة» التى عرفت جمعيات الرفق بالحيوان منذ سنوات القرن التاسع عشر! وهنا انبرى «حمار الحكيم» فى تسجيل صوتى قديم بدأه بوصلة نهيق طويلة ثم دعا الحاضرين إلى التكتل والتضامن فى معركة حياة أو موت يتعرض لها ذلك الحيوان الأليف الحمول الطيب، عندئذ تذكر كاتب السطور، الذى كان يتابع الموقف عن كثب، أنه أصدر منذ خمسة عشر عامًا كتاب «الرهان على الحصان»، يقارن بينه وبين الحمار، وقد أعطى فيه الأخير حقه، ولم يبخسه دوره التاريخى ونضاله الطويل على الأرض الطيبة، منذ فجر التاريخ، ولايزال يظن أنه رغم أن الحصان هو رمز الفروسية، والذى يختار راكبه، ويرفض أن يمتطيه إلا صاحبه، ويتميز بالرشاقة والكبرياء، إلا أن خدمات الحمار تبدو أكبر كمية وأكثر شيوعًا من خدمات الحصان الأفضل نوعية والأقل تأثيرًا، لذلك فإن تعاطفنا أنا وغيرى من أجيال أبناء القرية المصرية هو انعكاس للإحساس المزعج بالمحنة التى يتعرض لها الحمير، حتى تحولت إلى مذبحة بعد قرون طويلة من الاستقرار والتعايش المشترك بين الإنسان والحمار، وذلك أمر يدعو إلى القلق، ويستدعى روح «توفيق الحكيم» ليعيد لحماره الراحل اعتباره الذى ينبغى ألا يزول أبدًا، وتذكرت فى هذه اللحظة قول الحق- تبارك وتعالى: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة».

المصدر : صحيفة المصري اليوم

arabstoday

GMT 11:02 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

اعترافات ومراجعات (51) الهند متحف الزمان والمكان

GMT 20:05 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

من دفتر أحوال مصر.. فصل جديد

GMT 18:58 2024 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

مصر فى عيون شرق وغرب المتوسط

GMT 19:18 2024 الإثنين ,18 آذار/ مارس

الكفاءات الصاعدة والجيل الجديد

GMT 19:22 2024 الإثنين ,11 آذار/ مارس

ملاحظات حول السابع من أكتوبر 2023

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«حمار الحكيم» يتذكر «حمار الحكيم» يتذكر



بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
 العرب اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 14:30 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

إسرائيل تعتقل 40 فلسطينيا في الضفة الغربية

GMT 18:04 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 5.6 يضرب ولاية توكات شمال تركيا

GMT 02:31 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

سماع دوى انفجارات في أصفهان وسط إيران
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab