المخدرات بين التهويل والتقزيم

المخدرات بين التهويل والتقزيم

المخدرات بين التهويل والتقزيم

 العرب اليوم -

المخدرات بين التهويل والتقزيم

بقلم : الدكتور موسى داوود الطريفي

المخدرات آفة من آفات العصر، تنبهت لها الحكومات المتتالية في المملكة الأردنية الهاشمية منذ زمن بعيد وأولت تلك الحكومات كل اهتمامها في محاربة كل السلوكيات الضارة ببنيان المجتمع وتماسكه، استشعرت الإدارة العليا للدولة لأهمية وجود منظومة متكاملة لمحاربة المخدرات، فكان لوزارة الداخلية السبق في إنشاء أول مركز علاج للإدمان ضمن محور العلاج، وكان لتطور القوانين والتعليمات والأنظمة الأثر الأكبر في خفض  الطلب على المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، إضافة إلى دور الأجهزة الأمنية في ملاحقة هؤلاء الخارجين عن القانون وتتبع المروجين والتجّار في منظومة فريدة شملت الوقاية والمكافحة والعلاج.

وكان للإعلام دور بارز في نشر الوعي، ومن الطبيعي أن يبرز دور الإعلام عند الحديث عن قضية المخدرات. فوسائل الإعلام تستطيع أن تلعب دوراً تنويرياً رائداً في مكافحة المخدرات، كما أن بإمكانها أن تقوم بدور سلبي للغاية في هذا المجال، سواء قصدت ذلك أم لم تقصد. والدور السلبي الذي نتحدث عنه لا يتمثل فقط في عدم الانخراط في  جهود مكافحة المخدرات بل في خلق ثقافة مجتمعية تتسم باللامبالاة تجاه انتشار المخدرات، وحتى تمجيد آثارها المدمرة بشكل غير مقصود.

لقد عشنا زماناً كنا ننكر فيه وجود مشكلة المخدرات أصلاً، ونتحدث وكأن هذه المشكلة موجودة عند الآخرين فقط، وكأن شبابنا لا يواجهون هذا الخطر الذي تواجهه البشرية جمعاء، ولا شك أن أول خطوة باتجاه حل أي مشكلة تكمن في الاعتراف بوجودها والتعامل معها بحجمها الحقيقي دون تهويل أو تقزيم.

إن دور وسائل الإعلام في مكافحة المخدرات يجب أن يتطور كما تطورت أساليب مروجي هذه الآفة المدمرة، فليس معقولاً أن نواصل العمل بنفس الأساليب القديمة التي ثبت عدم جدواها وملها الناس وانصرفوا عنها.

لقد شهدت وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة ثورة حقيقية وحققت قفزات هائلة وغير مسبوقة في الأعوام القليلة الماضية، فقد نشأ ما يسمى بالإعلام الجديد  الذي يقوم على التفاعلية وعلى إشراك الناس في العملية الاتصالية.

فالإعلام يقوم ـ حسب النظرية التقليدية ـ على المرسل والمستقبل والرسالة، أما الآن فإن المستقبل أصبح مرسلاً أيضاً، وأما الرسالة فالطرفان شريكان في تشكيلها وبنفس القدر، ويكفي أن نذكر أن مواقع الإنترنت الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي تمنح المتصفح قدرة التعليق على المادة التي يقرؤها فهو مستقبل ومرسل في آن معاً، كما أن بعض المواقع مثل "ويكبيديا" تمنح المستقبل الحق في تحرير المادة وتعديلها، أي أن الرسالة لم تعد ملك طرف واحد فقط يرسلها لطرف آخر لا يملك سوى التلقي والقبول بشكل سلبي، لقد أصبح متلقي الرسالة الإعلامية عنصراً فاعلاً بل شريكاً في تشكيلها.

ومن الضروري أيضا الإشارة إلى أننا عندما نتحدث عن وسائل الإعلام في معرض تأثيرها على الشباب، فإننا لا نتحدث فقط عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون، على أهميتها، ولكننا نتحدث أيضا عن الإنترنت والمواقع الإلكترونية وعن الرسائل القصيرة عبر الهاتف المتنقل وعن اللوحات الإعلانية في الشوارع وعن المدونات، وعن البريد الإلكتروني إذ إن رفيق السوء لم يعد فقط شخصا آخر نتعرف إليه في المدرسة أو الشارع أو المعهد فيؤثر سلبا على حياتك، بل هو أيضا شخص آخر يعيش في الفضاء التخيلي بعيداً عنك، في بلد قد تفصله عن بلدك مئات الآلاف من الكيلومترات، ولكنه قريب منك جداً وتعرفه عن قرب، بل وتعتبره صديقك الأقرب والأكثر إخلاصاً، رغم أنك لا تعرفه شخصياً ولم تر وجهه، بل تتواصل معه فقط في غرف الدردشة أو الرسائل الإلكترونية، ويمكن لهذا الشخص أن يكون رفيق سوء حقيقياً، فيؤثر على الشاب تأثيراً مدمراً و ويغير من قناعاته ويقوده إلى طريق المخدرات المهلك.

وفي الوقت الذي يحدث فيه هذا الإغواء المدمر للشاب لكي يدخل عالم المخدرات فإن الأهل الذين لا يشاهدون ابنهم، وهو يختلط مع رفاق سوء يعيشون في وهم كبير قد لا يستيقظون منه إلا بعد فوات الأوان.

 وأما أخطر ما يمكن أن تقع فيه وسائل الإعلام فيما يتعلق بجهود مكافحة المخدرات فهو الترويح لها من غير قصد وتمجيد حياة المتعاطين، وتصويرها على أنها تقوم على السعادة واللذة والمسرات، وكلنا نذكر بعض الأفلام التي تصور المدمن على أنه رجل ظريف ومسل ومضحك، إذ يبدو في هذه الأفلام وكأنه ازداد جاذبية وخفة دم نتيجة تعاطي المخدرات، فالمدمن في هذه الأفلام يتحلق الجميع حوله وهو يسخر من كل شيء، ويطلق العبارات التي تنتقد مختلف جوانب الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي في قالب ظريف ومحبب. والرسالة التي يتلقاها الشاب من هذه الوسيلة الإعلامية مغلوطة ومدمرة إذ إنها تشير إلى أن المخدرات تفتح له الطريق إلى قلوب الناس وتجعله محبوباً مع أن العكس هو الصحيح.

كما تنحو بعض الأعمال الإعلامية، دونما قصد في غالب الأحيان، إلى تصوير المدمن على أنه الأكثر جرأة على نقد الأوضاع كما فعل رسام كاريكاتير عربي شهير من خلال تصويره في كل رسوماته اثنين من المدمنين وهما يطلقان عبارات النقد الصريحة والجريئة، والرسالة هنا هي إما أن الطريقة الوحيدة لقبول الواقع تقوم على تعاطي المخدرات، أو أن الأسلوب الوحيد لنقد هذا الواقع ينحصر في الإدمان على تلك الآفة، وربما لا يشك أحد أن الرسام حين رسم ذلك لم يكن يقصد الترويح للمخدرات أو حتى السكوت على خطرها ولكنه وأمثاله أرسلوا، دونما قصد، برسالة إعلامية غير مباشرة أسهمت في تمجيد المدمنين وتصويرهم على أنهم ظرفاء يتميزون بحس الدعابة وأنهم يمتلكون الجرأة المطلوبة لنقد الواقع ومواجهته.

والمفارقة هي أن واقع المدمن على النقيض من ذلك تماماً، فهو أكثر الناس انسحاباً وهروباً من الحياة وأقلهم جرأة في مواجهة الواقع، كما أن حياته هي الجحيم بعينه، فهو لا يستطيع أن يعيش دون الاعتماد على هذه الآفة الرهيبة، فأين الظرافة أو الجرأة أو خفة الدم في ذلك؟!

إن الحاجة ماسة لتوعية الإعلاميين أنفسهم إلى ضرورة التحلي بالوعي عند التعامل مع قضايا المخدرات، بحيث لا تتحول وسائل الإعلام إلى مروج أو ممجد لهذه الآفة دون قصد. وسواء لعبت وسائل الإعلام دورها السلبي بقصد أو بغيره فإن النتيجة واحدة وهي انضمام فئات جديدة من الشباب إلى صفوف ضحايا المخدرات، وبمعنى آخر فإن المطلوب هو صياغة رسالة إعلامية واضحة المعالم وحازمة ومحددة حتى لا ينتج عنها غير المقصود منها.

وهناك الخطر الأكبر والذي يكمن في تحجيم قضية المخدرات وتقزيمها مما يعطي للمتعاطي والمروّج والتاجر مساحة أوسع كونه غير مكشوف، وكونه يعمل (بنجاح) حسب تقديره حين يستمر في متابعة أخبار تقزّم المشكلة وكأن الإعلام لا يدرك جرمه.

أما أكبر الأخطار حين يبدأ التهويل عند بعض الإعلاميين الغير محترفين واصطياد الأخبار وتكبير حجمها، ليكون لخبره وزن وسبق مما يثير الرعب في المجتمع وينشر فكرة أن المجتمع أصبح جسماً مريضاً بالمخدرات، مما يسهم في هروب الاستثمارات ويسيء لسمعة التعليم ويؤدي إلى تأثر كافة القطاعات في الدولة، وبغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد فإن هذا التهويل أصبح خطراً يفوق خطر المخدرات بحد ذاتها.

ولا شك أن وسائل الإعلام الجديدة مثل المدونات وغرف الحوار والبريد الإلكتروني والإنترنت تطرح تحديات جديدة، إذ إنها تقوم على الاتصال المباشر بين الناس فإذا ما أخطأت الصحافة أو الإذاعة أو التلفزة فإنك توجه اللوم إلى القائمين عليها، أما في الوسائل الجديدة فمن عساك تلوم؟!

لهذا يجب علينا وعلى كافة السادة الإعلاميين أن نتعامل مع قضية المخدرات بحجمها الطبيعي وأن لا نتصيّد الأرقام الجامدة والاحصاءات غير الدقيقة والمعلومات المغلوطة كونها لا تؤدي إلا إلى ضرر أكبر، والابتعاد عن الهدف الأسمى في مكافحة المخدرات لنكون نحن أداةً في تزيين التعاطي أو إثارة فضول المتلقي بقصد أو دونه.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المخدرات بين التهويل والتقزيم المخدرات بين التهويل والتقزيم



GMT 14:19 2023 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

العراق فاتحاً ذراعيه لأخوته وأشقائه

GMT 10:32 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

أعلنت اليأس يا صديقي !

GMT 14:36 2022 الأحد ,13 آذار/ مارس

بعد أوكرانيا الصين وتايون

GMT 11:09 2021 الإثنين ,20 كانون الأول / ديسمبر

عطش.. وجوع.. وسيادة منقوصة

GMT 20:31 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

GMT 12:52 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

قرار المحكمة الصهيونية مخالف للقانون الدولي

GMT 18:56 2018 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

أخونة الدولة

GMT 10:35 2018 الأحد ,02 كانون الأول / ديسمبر

عدن مدينة الحب والتعايش والسلام

نوال الزغبي تستعرض أناقتها بإطلالات ساحرة

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 09:27 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

ألوان الطبيعة أبرز اتجاهات الديكور هذا الربيع
 العرب اليوم - ألوان الطبيعة أبرز اتجاهات الديكور هذا الربيع

GMT 01:15 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

إيران وإسرائيل... رسائل النار والأسئلة

GMT 23:23 2024 الأحد ,14 إبريل / نيسان

الاحتلال الإسرائيلي يقتحم جنوب نابلس

GMT 21:10 2024 الأحد ,14 إبريل / نيسان

وفاة المخرجة إليانور كوبولا عن عمر 87 عاماً

GMT 07:47 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

مصرع 12 شخصاً وفقدان آخرين جراء أمطار سلطنة عمان

GMT 10:18 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

الخطوط الجوية الهندية تعلق رحلاتها إلى تل أبيب

GMT 16:34 2024 الأحد ,14 إبريل / نيسان

سيمون تكشف عن نصيحة ذهبية من فاتن حمامة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab